★الساذج الذي أراد الذهاب الى القمر ★قصة بقلم الأستاذ محمد الطايع



الساذج الذي أراد الذهاب الى القمر

قصة واقعية ..

السلام عليكم انا محمد الطايع هوايتي كتابة القصص ، القصة التي أود أن ارويها اليوم ، قد تبدو غير حقيقية لكن هذا ليس مهما ، لأن المهم فعلا هو أنها خالية من المبالغة ، وليتنا نتصف بالصبر ونحن نحاول تحديد الفرق الحقيقي بين ما يحدث
و ما لايحدث في حياتنا ، لانها مسألة في غاية التعقيد ، بل وتكاد تكون غير ممكنة ..

إنها قصة عن ذلك الرجل المدعو ( سلام الساذج ) وهو ساذج فعلا ، عندما التقيته مباشرة تأكدت من هذا ، لكن عندما يتحدث يخطر ببالك انه شخص مهم ، لكنني متأكد أنه ليس سوى غبي ، غبي كبير .. لكن هذا طبعا لاينفي أنه طيب و متسامح ..

و هي ترى حماسه و جديته ، لم تكن زوجة سلام الساذج مطمئنة ، لكنها لم تجد بدا من أن ترضخ له وتعينه على تنفيذ رغبته في هذا السفر الغريب بعدما تأكدت أن إصراره أقوى من أي رفض أو معارضة ، عندما رآها منهمكة في ترتيب حقائبه في الليلة ما قبل صباح سفره ، أخبرها أن أصدقاءه نبهوه إلى اهمية التخفف من اثقال السفر ، فكل الذي عليه إحضاره معه ، بطانية و زوجي جوارب صوفية من أجل التدفئة لأن الأجواء العليا باردة جدا ، خاصة أن سائر وقتها ليل مصقع ، أما الأكل فلا داعي للتزود به ، لان كبسولة السفر تحتوي على خزانة مليئة بكل الضروريات ..

وهي تجلس بمحاذاته على سريرهما ، أمسك بيدها محاولة منه لرفع مشاعر الخوف والقلق عنها ، وأخبرها أن رحلته لن تدوم أكثر من ثلاثة أشهر ، ثم ذكرها بأيام زواجهما الاولى ، عندما كان يعمل راعيا للغنم في القرية و كيف امتدحه والدها أمام أهل البلدة واصفا إياه بالحكمة و بعد النظر ، مسحت الزوجة دموعها بأكف مرتعشة ، ثم طلبت منه أن يحضر لها تذكارا من هناك عندما يعود الى الارض ..

- زوجتي العزيزة ، افتحي النافذة وانظري الى القمر ، نعم انا اعرف انك تعرفينه جيدا ، لكن هذه المرة اريدك ان تحدقي به طويلا ، و تؤمني ان اناسا يتواجدون فيه الساعة و انهم يتحركون في كل الاتجاهات يسابقون الوقت ، و يجتهدون لتحصيل المال ، من هنا لايمكنك رؤيتهم طبعا ، لان القمر يبدو لنا خاليا وصامتا ، بينما هو في الحقيقة مزدحم و صاخب ، آه كم كنا غافلين ، و كنا نعيش في جهل كبير ، و الآن العالم كله أمام خيارين ، إما أن يقبل بالعلم و يؤمن أنه الطريق الوحيد لتقدمه ، او يكتفي الناس بالتأخر و الانحطاط ..

بعيد آذان الفجر بقليل ، تسلل الى غرفة صغاره الثلاثة قبلهم على أكفهم وجباههم و هم لا يشعرون به ، ثم حضن زوجته وقال قبل مغادرته :

- لاتنسيني من دعواتك أيتها المؤمنة ..

استقل سلام الساذج أول سيارة أجرة عند مدخل الحي ، ثم توجه الى المحطة الطرقية ، هناك فضل الجلوس في المقهى في انتظار أصدقائه ، لانه حضر قبل الموعد بساعة كاملة ..

و هو يتأمل المسافرين الداخلين والخارجين عبر بوابة المحطة ، قال في نفسه : يا سبحان الله ، من كان يخطر له أنني أنا القروي الساذج القليل العلم و المعرفة ، سوف أسافر إلى القمر ..

هكذا فكر صاحبنا ، وذاك أنه قبل أن يتعرف على هؤلاء الاصدقاء ، و بعد هجرته الى المدينة بسنة ، لم يكن يعرف الكثير من الأمكنة ، الا المقهى القريب من العمل حيث جمعته بهم الصدفة ، وكذلك مسجد الحي وبعض دكاكين البقالة ، في أيام احتكاكه الاولى بهم ، اكتشف الاصدقاء أنه جاهل تماما بجغرافية العالم ، إذ رفض أن يصدقهم عندما اخبروه أن الارض التي نعيش عليها كروية الشكل و ان لهذه الارض جاذبية لاترى بالعين و ان الجاذبية العظيمة هي ما يمسك الأشياء و الناس كي لايتدحرجوا من فوقها الى أسفل ..

ثم زادت معرفته بالعالم فتأكد و بالصور أن البحار تغطي ثلاثة أرباع مساحة هذه الأرض ، و أن الارض ليست هي المكان الوحيد الذي يمكن العيش فيه ، فثمة المريخ و الزهرة و عطارد و نبتون و المشتري ، لكن و بسبب بعد هذه الكواكب عن الارض فإن تكلفة السفر اليها باهضة ، كما أن جل العمال البسطاء و المياومين الباحثين عن فرص عمل تغطي احتياجاتهم المعيشية ، يكتفون بالذهاب الى القمر .. فالقمر يعج بالكادحين و بالمصانع الكثيرة و المناجم ، الا أن على الذاهب إليه أن يلزم الحذر من اللصوص ، و المتسولين و النصابين و العاهرات ، لأن أعدادهم تفوق المتوقع بكثير ، أما اللصوص فإنهم يتسللون الى القمر عبر مركبات سريعة لايملك أصحابها رخصا ، بينما الاخطر هم النصابون الذين يوهمونك بقدرتهم على السفر بك الى المريخ بينما هم انفسهم لايعرفون كيف يغادرون أمكنتهم ..

مرت ساعة فساعتين و لم يحضر اصدقاء سلام ، فساورته الشكوك و الظنون ، كأن يكون امرهم قد افتضح مع السطلة التي تمنع السفر الى القمر بطرق غير شرعية ، أو ان تكون كبسولتهم قد تعرضت لعطل تقني ، بينما لم يعد يملك المزيد من الصبر ، فتلك نقوده قاربت على الانتهاء ، هو الذي باع قطعة من ارض ورثها عن ابيه من أجل خوض غمار هذه المغامرة التي يعتقد أنها مربحة ، فكان يغطي مصاريف اصدقائه الكثيرة ، اضافة الى تكفله بتوفير احتياجاتهم البسيطة مثل السجائر و الجرائد و كان يدفع لهم أيضا مقابل فناجين القهوة و الساندويشتات ، إلا أن أكبر ما كاد يسبب في افلاسه هي النقود التي دفعها لصاحب الكبسولة ، لقاء هذا الذهاب الموعود الى القمر ..

في ذلك الصباح البائس ، طال انتظاره حتى تعبت اعصابه ، و حين قاربت الساعة منتصف النهار ، حمل حقيبته غاضبا ثم توجه نحو المقهى حيث تعرف على أصدقائه اول مرة و فيها ايضا كانوا يلتقون ، حين سأل النادل عنهم ، أخبره النادل أنهم لم يحضروا منذ يومين ، عاد بعد ذلك الى بيته حزينا كسير الخاطر ، فلم تجد زوجته بدا من مواساته والتخفيف عنه ، بعدما سألته إن كان بحث عنهم جيدا ، فإذا به يخبرها أنه لايعرف أين يسكنون ..

بعد أيام قليلة ، شاع بين الناس خبر مضحك مفاده ، أن جماعة من المثقفين العاطلين ، لعبوا لعبة حقيرة برجل ساذج جدا ، حيث أو هموه بأنهم ينظمون رحلات سرية تمكن الراغبين في عمل من النزول على سطح القمر ..

كل من يسمع هذه الحكاية الغريبة يضحك ماطاب له ،
- ياسبحان الله ، هل يوجد بيننا فعلا اناس بمثل هذه السذاجة ؟ ! نعم هذا ما يحدث الجميع يظنون انفسهم اذكياء و نبهاء ، بينما الحقيقة عكس ذلك تماما ، و مع الوقت و هو يسمع تصريحات الناس حول قضيته تأكد أنه تم النصب عليه ، و أن القصة كلها محض لهو و سخرية ..

لكن الغريب جدا ، أن الناس اهتموا بغبائه و تداولوه بينهم مثل نكتة مسلية ، حتى اصبح سلام الساذج مضرب المثل في البلادة و لا أحد فكر في معاقبة أو اتهام أولئك النصابين ، و السبب راجع لنوع المعلومات المجنونة التي أخبروه بها ، اذ من غير المعقول أن يصدق عاقل في هذا العالم أن القمر مأهول بالعمال ، و ان الكواكب الاخرى أشبه بفنادق خمسة نجوم ، فالعلم الحديث مازال عاجزا عن اكتشاف أية حياة اخرى خارج كوكب الارض ، بل حتى شكل الارض نفسها مازال الباحثون يختلفون فيه ..

أصبحت حياة سلام الساذج لا تطاق ، ففي العمل جميع زملائه يسخرون منه ، وحتى يوم وقفوا وقفة احتجاج على الاقتطاعات الظالمة من أجورهم ، رفعوا لافتات ، مكتوب عليها ( لاتحسبوننا مثل سلام )

و هو يقدم شكايته للسلطات ، سأله مفوض الشرطة عن أوصاف الجناة ، فقال :

- انهم مثقفون .
قال المفوض :
- كيف عرفت انهم كذلك و انت اكبر جاهل في العالم ؟
قال سلام :

- كانوا يتحدثون في كل شيء ، بداية الخلق و نهاية العالم ، كانوا يتجادلون حول اللغة و قواعدها و البلاغة و النحو و علم العروض ، كثيرا ما تخاصموا حول شرعية قصيدة النثر ، و تجادولوا بشأن القرآن الكريم و الاحاديث النبوية الشريفة ، تحاجوا كثيرا فيما بينهم يا سيدي ، وكنت حاضرا اسمعهم طوال اشهر ، بعضهم تحدث عن السياسات الدولية و الهيمنة الامريكة و كيف أن الصين قادرة على اكتساح العالم اقتصاديا ، و كانوا جد بارعين في تحليل طرق و اساليب استغلال الصهيونية العالمية لسذاجة شعوب العالم العربية منها و الغريية على حد سواء ، كانوا يعرفون الكثير و افواههم تلهج طوال اليوم بكلمات مثل ابستمولوجيا جينولوجيا سيكولوجيا جيولوجيا ميتافيزيقيا و لقد شددوا كثيرا على أهمية السفسطائية و اتفقوا أنها أم العلوم ، و أنها فلسفة الواقع ..

استغرب المفوض لحديث سلام و قال :
- انك مثقف خطير ايها الرجل ! كيف تعرف كل هذا ؟ لم يقولون عنك جاهل .. ؟

قال سلام :
- انها مجرد كلمات احفظها سيدي و لا اعرف معناها ، فان اردت ان تتأكد من هذا اسألني مثلا عن كلمة وردت في جوابي و انا أخبره كيف أفهمها ..

تبسم المفوض و قال :

- حسنا مامعنى كلمة بلاغة ؟

قال سلام : معناها البلغة التي نلبسها و هي مثل الحذاء ، فان قلبتها صارت بغلة ، و البغلة هي انثى البغل ، و البغل حيوان نركبه و يجوز لنا ان نركبه و نحن نلبس بلغة ، فان لبست بلغة وركبت بغلة ، كانت تلك هي البلاغة ..

ضحك المفوض حتى سال لعابه على ربطة عنقه ثم طلب منه وصف أشكال هؤلاء الجناة ، لكن و بعدما فصل سلام في ذكر نوع ملابسهم و عاداتهم و طباعهم قال المفوض :

- أنك تتهم شريحة كاملة من مثقفي هذا العالم و ليس ثلاثة أشخاص كما تدعي ..

و مع تزايد اهتمام الناس بهذا الخبر العجيب ، ظهرت جمعية حقوقية اطقلت على نفسها ( لاتستغلوا السذج ) فكان أن تكلف رئيسها واعضاؤها بالتعريف بسلام و ما وقع له ، ثم حدث ان نظمت القناة التلفزية الوطنية لقاء مباشرا مع سلام ، فلاحظ مديرو القناة أنها انجح حلقة على الاطلاق اذ تزايدت نسبة المشاهدة بشكل غير مسبوق ،
كل الناس يقفون امام الشاشات مبهورين بمدى عبقرية هذا الرجل الساذج ، و كيف وهبه الله قدرة خاصة على تصديق أكبر انواع الكذب و الايمان بها ..

بعد أقل من سنة أصبح سلام مشهورا وثريا جدا ، و اصبحت لديه استديوهات كبيرة لتسجيل برامج كاملة من التفاهة و الترويج لثقافة السذج ، بعدما أطلق على مقره الواقع في احدى العمارات الراقية وسط المدينة ، اسم مؤسسة ( الغفلة و المغفلين ) ..

فجأة اكتشفت الأمة مدى أهمية ان تكون مغفلا ، و مدى حاجة العالم للسذج و تأثيرهم الكبير في الثقافة و العلوم و الادب و الفكر و الاختراع ..

و هكذا تسابقت جل المحطات الاذاعية و التلفزية على سلام مخصصة له لقاءات حوارية كثيرة مستغلة شهرته ، و أشهرها برنامج ( الساذج الذي اراد الذهاب الى القمر ) و الفيديو الخاص بهذه السلسلة موجود على يوتيوب و قد حقق اعلى نسبة مشاهدة .. لن تجدوا له رابطا أسفل صفحتي ..

في إحدى الحلقات سأل الصحفي سلاما :

- هل من نصيحة يمكنكم ان تقدموها للشباب الصاعد أستاذ سلام ..

قال سلام و على وجهه أعتى ملامح الجدية :

- لا تهتموا بأي شيء ، لا تفكروا بجدية ، اتركوا غيركم يفكرون ، فان التفكير مشقة و مضيعة للوقت و الجهد ، و إن المفكرين بالنيابة عنكم بارعون فيما يفعلون ..

توقف سلام عن الحديث قليلا مستمتعا بروعة اللحظة التاريخية ، ثم أضاف :

أرجو من السادة الذين يتابعونني على انستغرام و توير أن يحترموا خصوصياتي قليلا ، و ايضا اولئك المتعالمين الذين يهاجمون بالنقد الهدام السلسلة التوعوية الناجحة جدا و التي تقدمها زوجتي على يوتيوب ، فإن كانت تقدم نصائح للنساء المتزوجات فهي لاتعلب ، ألم يقولوا خلف كل رجل عظيم امرأة .. ؟!

و على كل حال أقول لهم : أيها الفاشلون ، ماذا أفادتكم شواهدكم العلمية ؟ و إن كنتم تسخرون مني لأنني صدقت ذات يوم أنني سوف أسافر الى القمر ، فإنكم أنتم أيضا صدقتم أن علمكم أقوى من جهلنا الجميل ، و على كل حال ، دعوني أقول لكم : ان القافلة تنبح و الكلاب تسير ..

بعد جملته هذه ، ضج الاستوديو بالتصفيق الحار ، و قد قام الجمهور الحضور وقوفا تقديرا و اجلالا للرجل ، كان مشهدا عظيما تخشع له القلوب و تقشعر له الابدان ، و هي تشاهده بكت زوجته من فرحتها و كانت تجلس محاطة بالخادمات في الفيلا الجديدة التي قدمتها احدى شركات الاشهار هدية لزوجها ..... زوجها الذي اصبحت تفخر به على كل نساء العالم ..

محمد الطايع

تعليقات